كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها. وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتًا، هذه وابنها منهم، ويرى عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد، والوحدة، والغربة، والتسليم، إلى ذبح الولد، آلت إلى ما آلت عليه، من جعل آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة. وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره. قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، انتهى.
وقال السيوطي في الإكليل: واستدل بقوله تعالى بعد: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات 112]، من قال إن الذبيح إسماعيل، وهو الذي رجحه جماعة، واحتجوا له بأدلة: منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده، والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق، وغير ذلك، وهي أمور ظنية لا قطعية، ثم قال: وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقترب منه- ولم أر من سبقني إلى استنباطه- وهو أن البشارة وقعت مرتين، مرة في قوله تعالى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات 99- 102]، فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح. ومرة في قوله: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] الآية. فقد صرح فيها أن المبشر به إسحاق، ولم يكن بسؤال من إبراهيم. بل قالت امرأته إنها عجوز، وإنه شيخ، وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في آخر أمره. أما البشارة الأولى لما انتقل من العراق إلى الشام، حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد، ولذلك سأله. فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين، بغلامين: أحدهما بغير سؤال، وهو إسحاق صريحًا. والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره. فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح. انتهى.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} أي: بالنبوة والرسالة، والاصطفاء على عالمي زمانهما.
{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} وهو قهر فرعون لهم، بذبح الأولاد، ونهاية الاستعباد.
{وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} أي: مع ضعفهم، وقوة فرعون وقومه.
{وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} أي: البليغ في بيانه للأحكام والتشريعات، والآداب.
{وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: في باب الاعتقاد والمعاملات الموصل رعايته والسلوك عليه، إلى السعادة.
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} وهو من أنبياء بني إسرائيل من بعد زمن سليمان، أرسله الله لما انتشرت الوثنية في الإسرائيليين، وساعد على انتشارها بينهم ملوكهم، وبنوا لها المذابح وعبدوها من دون الله تعالى، ونبذوا أحكام التوراة ظهريًا. فقام إلياس عليه السلام يوبخهم على ضلالهم ويدعوهم إلى التوحيد، ويسمى في التوراة: إيليا، وله نبأ فيها كبير.
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} أي: عذاب الله، ونقمته.
{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} أي: تعبدونه أو تطلبون الخير منه؟ وهو صنم من أصنام الفينيقيين، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة، يعظمون من شأنهم، ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة، ويقدمون لخم ضحايا بشرية: {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} أي: تتركون عبادته. قال القاضي: وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار، المعني بالهمزة. ثم صرح يه بقوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} أي: تعبدونه أو تطلبون الخير منه؟ وهو صنم من أصنام الفينيقيين، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة، يعظمون من شأنهم، ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة، ويقدمون لخم ضحايا بشرية: {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} أي: تتركون عبادته. قال القاضي: وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار، المعني بالهمزة. ثم صرح يه بقوله: {وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي: في العذاب.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي: الذين آمنوا به واتبعوه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة ب: ياسين. وقرئ {آل ياسين} بإضافة آل- بمعنى أهل- إليه. وكله من التصرف في العلم الأصلي، الذي هو إيليا على قاعدة العرب في الأعلام العجمية، إذا أرادت أن تلفظها في الاستعمال، وتخففها على الألسنة.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي: للدعاء إلى الله، والنهي عن الفواحش: {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي: من عذاب قومه المنذرين.
{إِلَّا عَجُوزًا} وهي امرأته، فإنها وإن خرجت عن مكان عذابهم، كانت: {فِي الْغَابِرِينَ} أي: في حكم الباقين في العذاب، لكونها على دين قومها.
{ثُمَّ دَمَّرْنَا} أي: أهلكنا: {الْآخَرِينَ} بجعل قريتهم عاليها سافلها، وإمطار حجارة من سجيل عليهم.
{وَإِنَّكُمْ} أي: يا أهل مكة: {لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} أي: فترون دائمًا علامات مؤاخذتهم: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي: إلى أهل نينوى للتوحيد، والزجر عن ارتكاب المآثم.
{إِذْ أَبَقَ} أي: بغير إذن عن قومه المرسل إليهم: {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي: السفينة المملوءة، ليركب منها إلى بلد آخر. روي أنه نزل من يافا، وركب الفلك إلى ترسيس، فهبت رياح شديدة كادت تغرقهم، فاقترعوا ليعلموا بسبب من أصابهم هذا البلاء، فوقعت على يونس، فألقوه في البحر. وهو معنى قوله تعالى: {فَسَاهَمَ} أي: قارع: {فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} أي: المغلوبين بالقرعة. وأصله الزلق عن الظفر.
{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} أي: ابتلعه: {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي: آت بما يلام عليه من السفر بغير أمر ربه.
{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} أي: الذاكرين الله بالتسبيح، والإنابة، والتوبة، في بطن الحوت.
{لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي: لكان بطنه قبرًا له إلى يوم القيامة؛ أي: لكن رحمناه بتسبيحه.
{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء} أي: حملنا الحوت على طرحه باليبس من الشط: {وَهُوَ سَقِيمٌ} أي: مما ناله من هذا المحبس الذي يأخذ بالخناق.
{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} أي: لتقيه من الذباب والشمس.
{وَأَرْسَلْنَاهُ} أي: بعد ذلك، بأن أمرناه ثانية بالذهاب: {إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وهم قومه المرسل إليهم، الذين أبق عن الذهاب إليهم أولًا، و أو للإضراب، أو بمعنى الواو للشك بالنسبة إلى مرأى الناظر؛ أي: إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر. والغرض الوصف بالكثرة.
{فَآمَنُوا} أي: فسار إليهم ودعاهم إلى الله، وأنذرهم عذابه إن يرجعوا عن الكفر، والغي، والضلال، والفساد، والإفساد. فأشفقوا من إنذاره واستكانوا لدعوته وآمنوا معه: {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي: حين انقضاء آجالهم بالعيش الهني، والمقام الأمين، ببركة الإيمان والعمل الصالح، وإنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص من قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} الخ اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة.
{فَاسْتَفْتِهِمْ} أي: قريشا المنذرين بأنباء الرسل وقومهم: {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} أي سلهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها. جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور، في قولهم: الملائكة بنات الله. مع كراهتهم الشديدة لهن، وأودهم واستنكافهم من ذكرهن.
{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} أي: حاضرون، حتى فاهوا بتلك العظيمة.
{أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ} أي: صدر منه الولد، مع أن الولادة من خواص الأجسام القابلة للفساد: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: في مقالتهم.
{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ} أي: اختار الإناث: {عَلَى الْبَنِينَ} أي: الذكور.
{مَا لَكُمْ} أي: أي: شيء عرض لعقولكم: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بنسبة الناقص إلى المقام الأعلى، وتخيرّكم الكامل.
لطيفة:
قال الزمخشري: قال قلت: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ} بفتح الهمزة، استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد، فكيف صحت قراءة أبي جعفر بكسر الهمزة على الإثبات؟ قلت: جعله من كلام الكفرة، بدلًا عن قولهم: {وَلَدَ اللَّهُ} وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضي الله عنهما. وهذه القراءة، وإن كان هذا محملها، فهي ضعيفة. والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها. وذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} و: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فمن جعلها للإثباث، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين. انتهى.
{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أي: أنه منزه عن ذلك.
{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} أي: حجة واضحة وبرهان قاطع، ثم لا يجوز أن يكون ذلك عقليًا، لاستحالته عند الفعل، فغايته أن يكون مأثورًا عن أسفار مقدسة.
{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} أي: المسطور فيه ذلك عن وحي سماوي: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: في دعواكم. وهذا كقوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35]، وفيه إشعار بأن المدار في الدعوى على البرهان البين، وأنها بدونه لا يقام لها وزن.
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} أي: قربًا منه. قال مجاهد: قال المشركون: الملائكة بنات الله تعالى. فقال أبو بكر رضي الله عنه: فمن أمهاتهن؟ قالوا: بنات سروات الجن. وكذا قال قتادة وابن زيد، ثم أشار إلى أن لا نسبة تقتضي النسب بوجه ما، عدا عن استحالة ذلك عقلًا، بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} أي: المنسوب إليهم هذا النسب.
{إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي: في النار يوم القيامة. لكون الجنة كالجن، علمًا في الأغلب للفرقة الفاسقة عن أمر ربها من عالم الشياطين، أي: فالمنسوب إليهم يتبرؤون من هذه النسبة، لما يعلمون من أنفسهم أنهم من أهل السعير، لا من عالم الأرواح الطاهرة، فما بال هؤلاء المشركين يهرفون بما لا يعرفون؟ وفسر بعضهم الجنة، بالملائكة المحدّث عنها قبلُ. والضمير في إنهم، للكفرة. ولعل ما ذكرناه أولى، لخلوّه عن تشتيت الضمائر، ولموافقته للأغلب من استعمال الجن والجنة. وذلك فيما عدا الملائكة. وقلنا الأغلب لما سمع من إطلاق الجن في الملائكة. قال الأعشى يذكر سليمان عليه السلام:
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَاْئِكِ تَسْعَةً ** قِيَاْمًا لَدَيْهِ يَعْمَلُوْنَ مَحَاْرِبَا

وقال الراغب: الجن يقال على وجهين: أحدهما للروحانيين المستترة عن الحواس كلها، بإزاء الإنس. فعلى هذا تدخل فيه الملائكة. وقيل: بل الجن بعض الروحانيين، وذلك أن الروحانيين ثلاثة: أخيار وهم الملائكة. وأشرار وهم الشياطين. وأوساط فيهم أخيار وأشرار، وهم الجن، ويدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] إلى قوله تعالى: {وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن: 14]. انتهى.
ورد إطلاق الجن على الملائكة العلامة الفاسي في شرحه على القاموس فقال: تفسير الجن بالملائكة مردود؛ إذ خلق الملائكة من نور لا من نار كالجن. والملائكة معصومون، ولا يتناسلون ولا يتّصفون بذكورة وأنوثة، بخلاف الجن؛ ولهذا قال الجماهير: الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34]، منقطع أو متصل. لكونه كان مغمورًا فيهم، متخلقًا بأخلاقهم. انتهى.
وهو يؤيد ما ذهبنا إليه، وبيت الأعشى لا يصلح حجة، لفساد مصداقه؛ لأن سليمان لم تسخر الملائكة لتشيد له المباني، وليس ذلك من عملهم عليهم السلام، وقد مر الكلام على ذلك في تفسير سورة سبأ.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي: من الولد والنسب. وقوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء من المحضرين، الذين هم الجنة، متصل على القول الأول، أي: المؤمنين منهم، ومنقطع على الثاني، أو استثناء منقطع من واو يصفون. هذا وبقي وجه في الآية لم يذكروه، وهو أن يراد بالنسب المناسبة، والمشاكلة في العبادة، ويراد بالجنة الملائكة، ويكون المراد من الآية الإخبار عمن عبد الملائكة من العرب وجعلوهم ندًا ومِثلًا له تعالى، وحكاية لضلال آخر لهم، غير ضلال دعواهم، أنهم بنات الله سبحانه، من عبادتهم له، مع أنهم عليهم السلام يعلمون أن هؤلاء الضالين محضرون في العذاب. والآية في هذا كآية: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40- 41]، وكان السياق من هنا إلى آخر، كالسياق في طليعة السورة، كله في تقرير عبودية الملائكة له تعالى، وكونها من مخلوقاته الصافّة لعبادته، فأنى تستحق الربوبية؟ والله أعلم. وقوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} عود إلى خطابهم.
{مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} أي: مفسدين أحدًا بالإغواء.
{إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} أي: ضال مثلكم، مستوجب للنار، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: فإنكم أيها المشركون بالله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} من الآلهة والأوثان: {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنينَ} أي: ما أنتم على ما تعبدون من دون الله بمضلين أحدًا {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ اَلْجَحِيم} أي: من سبق في علمي أنه صال الجحيم. وقد قيل: إن معنى عليه به. انتهى.
ثم بين تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية، للرد على عبدتهم، بقوله حاكيًا عنهم:
{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} أي: في العبودية وتسخيره فيما يريده تعالى منه. لا يتعدى فيه طوره، ولا يجاوز منه قدره.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} أي: في أداء الطاعة، ومنازل الخدمة التي نؤمر بها.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أي: المنزهون الله عما يصفه به الملحدون، أو المصلون له خشوعًا لعظمته، وتواضعًا لجلاله.
{وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} أي: مشركو قريش.
{لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنْ الْأَوَّلِينَ} أي: كتابًا من الكتب التي نزلت عليهم.
{لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي: لأخلصنا العبادة له، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو أهدى الكتب والمعجز من بينها.
{فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي: عاقبة كفرهم. وهذا كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر: 42]. وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 156- 157].
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} أي: وعدنا لهم الأزلي، وهو:
{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا} أي: الرسل ومن آمن معهم: {لَهُمُ الْغَالِبُونَ} أي: الظاهرون على أعدائهم، والمالكون لنواصيهم كقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].